الخميس 30 أكتوبر 2025 الموافق 27 ربيع الآخر 1447 ه */*
في لحظةٍ من الارتباك الوطني، وبين أمواج الاتهامات التي تضرب الساحة الموريتانية منذ صدور تقرير محكمة الحسابات، ورد اسمٌ كان حضوره يُلهم الثقة ويثير الاحترام: المدير العام السابق لشركة صوملك، الشيخ ولد بده.
الخبر لم يكن عاديًا، ولا يمكن لأي موريتاني عرف الرجل أو عمل معه أن يتلقّاه ببرودٍ أو حياد، لأن الصورة الراسخة في الأذهان عن هذا المسؤول هي صورة النزاهة الصامتة، والكفاءة العملية، والابتعاد عن المظاهر والتهافت على المناصب.
لقد كان الشيخ ولد بده مستهدفًا من طرف المفسدين أنفسهم، لأنه لم يرحمهم في ملفاتهم، وأغلق أمامهم منافذ التلاعب المالي والإداري التي طالما استغلوها:
- قطع عليهم طرق الصفقات المشبوهة،
- رفض تمرير العقود غير الشفافة،
- ضبط مساطر التوريد والمشتريات،
- أوقف التوظيف بالوساطة،
- حدّ من الهدر في المشاريع،
- وأسس نظام مراقبةٍ داخلية صارمٍ في صوملك لم يُعجب المتضررين.
 وهكذا أصبح هدفًا لحملةٍ صامتة يقودها من هو أقوى منه نفوذًا، أولئك الذين اعتادوا أن يعيشوا فوق القانون ويتدثروا بالمصالح العليا للدولة وهم في الواقع يخدمون مصالحهم الخاصة.
بلد الثروات المفقودة
كيف يمكن لبلدٍ يمتلك الغاز والنفط والحديد والذهب والسمك أن يقف على أبواب المانحين يستجدي حبة قمحٍ أو منحةً دراسية؟
كيف تُصبح حفر بئر ماءٍ أو بناء فصلٍ دراسيٍّ “عملاً إنسانيًا” بدل أن يكون واجبًا تموله خزينة الدولة؟
إنها المفارقة التي تُلخّص مأساة بلدٍ تُهدر فيه الموارد عامًا بعد عام، بينما يعيش مواطنوه على الكفاف، ويبحث شبابُه عن الأمل وراء البحار.
حين بدأ الحلم يتبدّد
عندما نُشر تقرير محكمة الحسابات لسنتي 2022 و2023، ساد شعورٌ عام بأن لحظة الحقيقة قد حانت.
ظنّ الناس أن البلاد مقبلة على عهدٍ من المحاسبة الحقيقية، وأن الذين نهبوا المال العام سيُقدَّمون إلى العدالة، وستُستعاد المليارات المنهوبة من الخارج، وأننا أخيرًا سنطوي صفحة طويلة من الإفلات من العقاب.
لكن الواقع كشف أن الطريق لم يكن بذلك الوضوح.
ضرورة مراجعة مسار الحرب على الفساد
لرئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني فضلٌ كبير في إحياء روح المحاسبة ومحاربة الفساد، فقد كانت مبادرته خطوة جريئة طال انتظارها.
غير أن هذه الحرب الشاملة تتطلّب استراتيجية أكثر عمقًا، تبدأ أولًا بمساءلة الذين جمعوا الثروات الطائلة بغير وجه حق، لا بمن ارتكبوا أخطاء تسييرية محدودة.
فالمفسدون المحترفون يعرفون جيدًا كيف يُزيّنون الجرائم بمسوّغات شكلية زائفة، وكيف يُلبسون الانحراف ثوبًا قانونيًا هشًا، بحيث لا يمكن – بأي حال من الأحوال – كشف جرائمهم أو إثباتها بالطرق التقليدية، ولا لأي تقريرٍ من تقارير المحكمة أن يفضحها بوضوح.
ومن هنا، يبقى الحل الواقعي الوحيد هو “من أين لك هذا” ووضع اليد على ممتلكاتهم في الداخل والخارج عبر القنوات الدبلوماسية والقضائية الدولية.
وكان ينبغي أيضًا أن تقوم الحكومة بنشر تقارير محكمة الحسابات للأعوام 2019 و2020 و2021، وهي سنوات من حكم الرئيس الحالي، ليتم تطهيرها من المفسدين وإرساء مبدأ المساواة في المحاسبة.
حتى الآن، لم يُقدَّم أي تفسير لغياب هذه التقارير، مما يجعلنا نتساءل:
هل كانت تلك السنوات خالية من الفساد؟
أم أن أصحابها كانوا محظوظين؟
أم أن السياسة اقتضت التغاضي عنهم؟
حين تُصبح المنصات محاكم
فما إن ظهرت بعض الأسماء حتى تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى محاكم موازية تُصدر أحكامها دون تحقيقٍ أو محاماةٍ أو أدلة، في مشهدٍ يُهدّد مصداقية العدالة نفسها.
وفي هذا الجو المسموم، وُضع الشيخ ولد بده في خانة “المشتبه بهم”، دون أن يُستمع إلى أقواله أمام الرأي العام، وكأن العدالة باتت تُدار من خلف الشاشات لا من داخل المؤسسات القضائية.
نحن لا ندافع عن الأشخاص ولا نبرر الأخطاء، بل ندافع عن النزاهة بكل أشكالها: نزاهة الضمير، ونزاهة السلوك، ونزاهة التسيير، ونزاهة الكلمة.
ندافع عن قيم العمل الشريف في وجه الفوضى، وعن العدالة في وجه الانتقائية، وعن شرف الخدمة العامة في وجه التشويه والتشهير.
إننا نطالب القضاء بمقاضاة كل من شهّر باسمه دون وجه حق، لأن العدالة التي لا تحمي الأبرياء لا تستطيع أن تُقنع أحدًا بأنها قادرة على معاقبة المذنبين.
بقلم المهندس الحاج سيدي ابراهيم سيدي يحي
اقرأ المزيد على الرابط : https://www.elhodh.info/



















