بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة مفتوحة إلى فخامة رئيس الجمهورية.
الموضوع: الغاز: رافعة صناعية أم ضحية جديدة للوبي المستوردين؟
،فخامة رئيس الجمهورية
،السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بصفتي مهندسًا متخصصًا في مجالي النفط والغاز، وانطلاقًا من حرصي الصادق على مستقبل وطننا، أسمح لنفسي بأن أتوجه إليكم اليوم لأعبّر عن قناعة راسخة مفادها أن موريتانيا تقف اليوم عند مفترق طرق، أمام فرصة نادرة لتحويل مواردها الغازية إلى رافعة رئيسية للتنمية الصناعية
إن برنامجكم الانتخابي، بما يحتوي عليه من إصلاحات ومشاريع هيكلية، يعكس إرادة واضحة في كسر دوامة الاقتصاد القائم على تصدير المواد الخام دون قيمة مضافة. ومع ذلك، فقد علمتنا التجارب أن الاستغلال الأمثل للغاز الطبيعي لا يمكن أن يقتصر على تصديره خامًا إلى الأسواق الدولية، فذلك سيكون اختزالًا مخلًا، وهدرًا لإمكانات تكمن قيمتها الحقيقية أولًا في تحويله محليًا، في خدمة نسيج صناعي وطني قوي ومستدام، قادر على خلق فرص العمل، ونقل المعرفة، وتعزيز السيادة الاقتصادية.
الرهان لا يكمن فقط في زيادة الإيرادات العمومية، بل في وضع أسس نموذج اقتصادي جديد يكون فيه الغاز محرّكًا لنظام إنتاجي مرن وقابل للتصدير.
ولهذا أجد من الضروري التأكيد على ضرورة أن تُجعل الاستفادة الصناعية من الغاز أولوية قصوى في مأموريتكم الثانية، لا باعتبارها مجرد محور من بين محاور أخرى، بل كعمود فقري ترتكز عليه عملية الإنعاش الاقتصادي للبلاد.
فإذا تم استغلال هذا المورد بشكل جيد، فقد يُشكّل بداية مرحلة جديدة لموريتانيا، بل إقلاعًا صناعيًا حقيقيًا طال انتظاره، وأصبح اليوم في متناول اليد.
،فخامة الرئيس
اسمحوا لي أولاً أن أحيي بإجلال أحد أبرز إنجازات مأموريتكم الأولى، الذي لم ينل ما يستحق من الإشادة، وهو إعادة بناء وترميم طريق الأمل.
هذا الطريق الحيوي، الذي يعود إنشاؤه إلى السبعينيات، ويخدم إحدى عشرة ولاية من أصل خمس عشرة، ظل لسنوات طويلة في حالة تآكل مزرية، مملوءاً بالحفر، ويخلو من الإسفلت في كثير من مقاطعه، مما أدى إلى كثرة حوادث السير، وسقوط العديد من الضحايا، فضلاً عن الخسائر المادية الجسيمة في الممتلكات.
لقد تعاقبت عليه الأنظمة، فاكتفت بترقيعات إسمنتية لم تكن تصمد أكثر من أيام معدودة، إلى أن توليتم أنتم هذه المهمة، وأنجزتم هذا المشروع في صمت، دون ضجيج، وبدون منّة أو استعراض إعلامي.
وهذا ما جعلنا نثق أكثر في رؤيتكم الاستراتيجية المتزنة، ونتطلع إلى أن تقودوا أيضاً مشروع الاستغلال الأمثل للغاز الطبيعي بنفس الحكمة والفعالية.
،فخامة الرئيس
الغاز الطبيعي ليس فقط مصدراً للدخل، بل هو ركيزة أساسية لصناعات حيوية كفيلة بتحقيق قفزة اقتصادية، منها:
1- صناعة الحديد والصلب:
الغاز يُستخدم كمصدر للطاقة الحرارية في عمليات الاختزال المباشر للحديد، وهي تقنية نظيفة تُنتج فولاذاً عالي الجودة. وموريتانيا، بما تملكه من احتياطي هائل من خام الحديد، مؤهلة لتشييد مصانع وطنية لصهر وتحويل الحديد محلياً بدل تصديره خاماً.
2- تحويل النحاس والذهب:
عمليات تصفية وتكرير هذه المعادن تعتمد على الطاقة الحرارية العالية، التي يوفرها الغاز بفعالية
بإمكاننا الاحتفاظ بالقيمة المضافة داخل البلاد من خلال إنشاء وحدات تصفية ومعالجة محلية، عوض إرسال المواد الخام إلى الخارج.
3- الصناعة البتروكيماوية:
الغاز يمكّن من إنتاج الأسمدة النيتروجينية (اليوريا، الأمونيا)، والتي يمكن تصديرها دولياً لتُدر مداخيل ضخمة وتضع موريتانيا في مصاف الدول المنتجة للمواد الكيماوية الزراعية في غرب إفريقيا وخارجه.
4- تحلية المياه:
يمكن للغاز أن يزود محطات التحلية بالطاقة اللازمة لإنتاج:
– صالحة للشرب لسكان المناطق التي تعاني من الملوحة أو الجفاف،
– ومياه مخصصة للري في الداخل، ما يعزز الأمن المائي ويُقلل الهجرة نحو المدن
5- تصنيع المنتجات السمكية
يُستخدم الغاز الطبيعي كمصدر للطاقة الحرارية في طهي وتعقيم السردين خلال مراحل التصنيع، ويُعتمد عليه لتشغيل المعدات وخطوط الإنتاج في مصانع التعليب. كما يمكن للغاز أن يُشغّل مصانع التجميد، التجفيف، والتعليب، مما يعزز من كفاءة سلسلة الإنتاج ويساهم أيضًا في تشغيل وحدات إنتاج زيت السمك ودقيق السمك، وهي صناعات تحويلية ذات قيمة مضافة.
تُعد هذه الأنشطة قادرة على توفير آلاف فرص العمل وتعزيز الصادرات الوطنية بشكل ملموس.
6- توليد الكهرباء
باستخدام الغاز كمصدر للطاقة، يمكننا خفض فاتورة الكهرباء بنسبة تصل إلى 50%، وهو ما سيكون له أثر مباشر على القدرة الشرائية للمواطن، وعلى تنافسية الاقتصاد الوطني.
7- ثروات تُكتشف… لكن لا تُستثمر
حين اكتُشف حقل شنقيط النفطي، استبشرنا كثيراً، خاصة مع وجود مصفاة للبترول في نواذيبو، كنا نعتقد أنها ستُستخدم فوراً لتصفية النفط الوطني. لكنها لم تُصفِّ قطرة منه، واستُنفد الحقل بأكمله دون أن يخلق فرصة عمل واحدة لمواطن موريتاني، بل تُركت المصفاة لتتآكل، في واحدة من أكثر صور الهدر إيلاماً في تاريخنا الاقتصادي.
ثم لما أُعلن عن اكتشاف الغاز، تجدد الأمل، وبدأ العدّ التنازلي في نفوسنا، معتقدين أن قطرته الأولى هي الأخرى، ستكون لحظة ميلاد موريتانيا الصناعية وأننا سنعيش الإقلاع الاقتصادي الذي وعدتمونا به، وأنه سيكون بداية لعهد جديد تزول فيه مشاهد الفقر والجوع، وتُفتح فيه أبواب العمل والاستثمار الوطني والأجنبي.
كنا نظن كذلك، أن القائمين عليه سيعملون ليلاً ونهاراً، حتى يتقاطع بدء إنتاجه مع إطلاق مشاريع هيكلية كبرى، تحوّل البلاد إلى عنوان للنمو والازدهار. لكن، وللأسف، يبدو أن الموعد مع هذه الفرصة التاريخية قد تم تفويته.
أما الشعور السائد اليوم، فهو أن هناك تأخراً واضحاً في الاستعداد، وكأن هذا التحول الوطني الجذري يُباشَر من دون بوصلة ولا خارطة طريق واضحة. وهو وضع يستدعي وعياً جماعياً، وتسريع وتيرة الجهود من أجل تنظيم وهيكلة عملية استغلال هذه الثروة الحيوية. ففي غياب يقظة سياسية جريئة، قد تضيع البلاد مرة أخرى فرصة تاريخية لتحقيق تنمية سيادية ومستقلة.
الظل الدائم للمصالح الاحتكارية: نحو تكرار مأساوي للتخريب الصناعي
أود أن أعبّر عن قلق أراه مبررًا بعمق: وهو خطر منهجي يتمثل في احتمال أن يُقوَّض الإمكان الغازي لبلادنا، لا بسبب قيود تقنية أو مالية، بل بفعل عودة ظهور مصالح خاصة نافذة، تعتمد ثروتها بالأساس على استمرار حالة التبعية.
إن الاعتقاد بأن التنمية الصناعية المدفوعة بالغاز ستتحقق دون مقاومة، هو ضرب من السذاجة الخطيرة. فهناك لوبي راسخ لبعض المستوردين، عُرف تاريخيًا بمناهضته لأي ديناميكية للإنتاج الوطني، وهو يمتلك أدوات النفوذ الكافية لإفشال أي استراتيجية تهدف إلى الاستقلال الاقتصادي. وتقوم وسيلتهم المجربة على إغراق السوق المحلية بواردات ضخمة من منتجات تفتقر غالبًا إلى الرقابة النوعية، في ظل مناخ من التراخي التنظيمي، مع تهميش الأصوات الداعية إلى دعم الصناعة الوطنية.
هذا السيناريو ليس افتراضيًا، بل قد حدث بالفعل. فقد كانت مصفاة نواذيبو الضحية الرمزية لهذا النموذج. فتوقيفها لم يكن نتيجة لانعدام الجدوى التقنية، بل كان ثمرة لتحالف مصالح هدفه الأساسي هو منع قيام سيادة طاقوية وطنية. وأود هنا أن أؤكد أنني أمتلك أدلة دامغة على جميع ما جرى من حيثيات هذا التخريب الاقتصادي المتعمد، مدعومة بوثائق وشهادات.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل جرى إضفاء الشرعية على هذا التوجه حتى في أعلى المستويات، حين صرّح رئيس الجمهورية، آنذاك، أن خبراء موريتانيين وأجانب نصحوه بتفكيك المصفاة وإلقائها في البحر، لأنها كانت تُعتبر عائقًا أمام دوائر الريع القائمة.
واليوم، بدأت تظهر تصريحات مشابهة حول الغاز، تسعى إلى التقليل من أهميته الاستراتيجية. وإذا سادت هذه النظرة التبسيطية، فإنها لن تمثل فقط خيبة أمل في وعد بالقطيعة مع الماضي، بل ستكون ترسيخًا لنموذج اقتصادي متراجع، تُختطف فيه المصلحة الوطنية لصالح دوائر خاصة.
فخامة الرئيس،
أود أن أؤكد أن موقفي الحالي من قضية الغاز لا ينبع من ردة فعل ظرفية أو موقف مرتجل، بل هو امتداد لمسار ثابت التزمت به منذ سنوات، من خلال تدخلات مباشرة ومقالات منشورة في وسائل الإعلام.
إن إصراري نابع من قناعة راسخة بأن الغاز الطبيعي لا يُعد فقط ثروة استراتيجية، بل يشكل أيضًا فرصة تاريخية أخيرة يمكن أن تعيد رسم أسس نموذجنا الاقتصادي الوطني.
ومن هذا المنطلق، أجدني مرة أخرى مضطرًا لأن أخاطب فخامتكم بكل مسؤولية، طالبًا أن يُجعل من الاستغلال الصناعي والسيادي لمواردنا الغازية أولوية استراتيجية قصوى خلال مأموريتكم الثانية — أنتم الذين أثبتم، من خلال إصلاحاتكم الجريئة، قدرتكم على تحويل ما عجز غيركم عن تحقيقه إلى واقع ملموس.
فخامة الرئيس،
الغاز الطبيعي لا ينبغي اختزاله في مجرد أداة لزيادة الإيرادات. فهو، من نواحٍ عديدة، مفتاح لتحول استراتيجي نحو نموذج تنموي سيادي، صناعي وشامل. تحويله إلى محرك للتحول الوطني يعني أن يُسجل عهدتكم الثانية في التاريخ كمرحلة الانتقال من الوعد إلى البناء، ومن الحلم إلى التحقيق
بقلم المهندس الحاج سيدي إبراهيم سيدي يحي
نواكشوط 20.5.2025
📌 اقرأ المزيد على الرابط :https://www.elhodh.info/