يُقدَّم مشروع عصرنة نواكشوط على أنه قاطرة للتحديث وإصلاح حضري شامل، غير أن حقيقته تبدو أكثر تعقيدًا مما يظهر في الخطابات الرسمية. فالعاصمة مهددة بأن تتحول إلى رهينة لسياسات جباية مرهقة تثقل كاهل المواطن، في وقت يعاني أصلاً من ضعف القدرة الشرائية وارتفاع تكاليف المعيشة. فالمخالفات المرورية قد تصبح مصدر دخل ثابت، والرسوم البلدية مرشحة للتضاعف، وقد تُستحدث ضرائب على النقل والتجارة، وعلى المحلات التجارية الصغيرة، بل وحتى على منازل السكان والخدمات الأساسية كالماء والكهرباء والنقل العمومي والتعليم والصحة. وهكذا يجد المواطن نفسه أمام مشروع يُسوَّق كخطوة نحو الرفاه، بينما هو في جوهره أداة لامتصاص ما تبقى من طاقة الناس الاقتصادية.
والأدهى من ذلك أنّ الداخل الموريتاني – مدنًا وقرى – سيبقى على هامش هذا المشروع، محرومًا من أبسط الحقوق: ماء صالح للشرب، سيارات إسعاف لإنقاذ الأرواح، مدارس قادرة على أداء دورها، وبنى تحتية تربط القرى بالمدن. وكأن المليارات الموجّهة لتلميع وجه العاصمة تُقتطع من رصيد الداخل، أو تُرغم الدولة على اللجوء إلى قروض خارجية جديدة تزيد من مديونية البلاد، بما تحمله من سلبيات خطيرة مثل استنزاف الميزانية العمومية في خدمة الدين بدل الاستثمار، تقليص السيادة الاقتصادية عبر شروط المقرضين، وترك الأجيال القادمة مرهونة بديون لم تستفد فعليًا من عوائدها. إنها تنمية لا تشمل الجميع، بل تركّز الموارد في المركز على حساب الأطراف.
لكن الأخطر من كل ذلك، أن نجاح هذا المشروع – إذا ما أُريد له النجاح – مرهون بقدرة الدولة على كبح جماح الفساد. فالأموال المرصودة ضخمة، وأي تهاون في متابعتها سيجعل المشروع عبئًا إضافيًا بدل أن يكون رافعة للتنمية. وقد أثبتت التجربة أن الأدوات التقليدية للرقابة لم تعد مجدية، وأن السبيل الوحيد لضمان الشفافية هو انتهاج نفس النهج الذي اتُّبع في ملف العشرية: تحقيقات دقيقة، محاكمات علنية، ومصادرة أموال. ورغم ما شاب تلك التجربة من جدل وانتهى ببراءة كثير من المشمولين، فإنها بعثت رسالة رادعة: أن المال العام ليس غنيمة سائبة، وأن العبث به يضع صاحبه أمام القضاء مهما كانت مكانته، وهو ما أثبت أن الدولة قادرة على الحزم والصرامة في لحظات لم يكن أحد يتوقعها.
ولعل هذا المشروع، بصيغته الحالية، قد يكون فخًا سياسيًا وُضع في طريق الرئيس، نظرًا لصعوباته الميدانية وتكلفته الباهظة ونقص آليات صيانته وتنفيذه. وإذا لم يُدر بحزم ويُنفَّذ وفق التعهدات التي أعلنها الرئيس في حملته الانتخابية – من مكافحة الفساد، وتكريس العدالة في توزيع الموارد، وتوفير الخدمات الأساسية لجميع المواطنين – فإنه قد يتحول إلى عبء إضافي، يراد منه إفشال مأموريته الأخيرة بدل أن يكون عنوانًا لنجاحها. خاصة وأن إعلان الرئيس عن خوض معركة مفتوحة ضد الفساد لا يُقرأ في بعده المباشر فحسب، بل يحمل في طياته اعترافًا ضمنيًا بأن مأموريته الأولى كانت رهينة لاختراقات عميقة لهذا الداء، عجزت الأدوات التقليدية عن احتوائها.
إن جوهر هذا الإعلان يكشف أن الثقة التي وُضعت في بعض المسؤولين تحولت إلى عبء ثقيل على الأداء العام، بدل أن تكون رافعة لتعزيز الفعالية، فكانت ثغرة نفذ منها الفساد، فأضعف القدرة على تحقيق الأهداف الاستراتيجية للمأمورية. وهو ما يجعل تعهده الجديد بمكافحة الفساد ليس مجرد وعد سياسي، بل محاولة لتصحيح مسار تجربة حكم شابها الكثير من الخيبات الناتجة عن سوء تقدير في اختيار رجاله..
إن ما يتطلع إليه المواطنون – في العاصمة كما في القرى والأطراف – هو العيش في وضع أفضل تُضمن فيه العدالة، ويُفتح فيه المجال أمام تنوع الآراء والمبادرات: من الشباب الحالمين بالتغيير، إلى الشيوخ المتمسكين بالقيم، إلى النساء المبدعات، إلى الرجال الكادحين. فالتجارب الفردية، والأفكار الجديدة، والرؤى المختلفة، جميعها يجب أن تجد مكانها في مشروع وطني جامع. وهذا التنوع، إذا ما استُثمر بعدل ومساواة، هو الركيزة الصلبة لنجاح البلد، وضمانة لأن تكون موريتانيا دولة قوية، جامعة، ووفية لأحلام مواطنيها.
بقلم المهندس الحاج سيدي ابراهيم سيدي يحي
اقرأ المزيد على الرابط : https://www.elhodh.info/