مسار العشرية.. الاختبار الحقيقي لمحاربة الفساد - وكالة الحوض للأنباء

مسار العشرية.. الاختبار الحقيقي لمحاربة الفساد

أقدم مجلس الوزراء يوم أمس الثلثاء على عزل عدد من المسؤولين من مناصبهم على خلفية الفساد، بعد أن كشفت المفتشية العامة للدولة خروقات مالية في تسييرهم. هذا القرار، وإن كان خطوة مهمة، ...
Image

أقدم مجلس الوزراء يوم أمس الثلثاء على عزل عدد من المسؤولين من مناصبهم على خلفية الفساد، بعد أن كشفت المفتشية العامة للدولة خروقات مالية في تسييرهم. هذا القرار، وإن كان خطوة مهمة، إلا أن التجربة علمتنا أن العزل وحده لا يكفي، إذ اعتدنا أن يكون مجرد إجراء أولي يمنح المفسدين فرصة لإخفاء ما تبقى من غنيمتهم ثم العودة مجددًا إلى التعيينات وكأن شيئًا لم يكن.

لقد تابع الرأي العام ملف العشرية، حيث اتُّهم كبار المسؤولين بالفساد، وعلى رأسهم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز. ومع ذلك، فقد وقف الرئيس محمد الشيخ الغزواني بحزم، رغم أن الملف كان يطاول أقرب أصدقائه. تلك اللحظة رسخت في الأذهان قناعة بأن لا أحد فوق القانون، وأن الإرادة السياسية في محاربة الفساد حقيقية

الرئيس نفسه وعد الشعب في حملته الأخيرة بأنه سيقطع كل يد تمتد إلى المال العام، واليوم يترقب الموريتانيون تطبيق هذا الوعد بلا هوادة. فلا يكفي أن يُطلب من المفسدين استرجاع جزء يسير من الأموال المنهوبة، بينما تبقى الثروات الكبرى مخفية بفضل مكائدهم وأساليبهم الغشوشة. هذه السياسة الناعمة هي التي أغرتهم بإعادة الكرة مرارًا.

إن الفساد ليس إلا سرقة صريحة للمال العام. وهو لا يقتصر على الاستيلاء المباشر من الخزينة، بل يشمل إبرام الصفقات المشبوهة، وتبديد الموارد في مشاريع وهمية، واستغلال النفوذ للمصالح الشخصية على حساب المصلحة العامة. الفساد يعني أن تُوجَّه ميزانية الدولة لخدمة قلة معدودة بدل أن تُصرف في بناء المدارس والمستشفيات والطرقات.

والفساد أيضًا هو المحسوبية والزبونية في التعيينات والمشاريع، وتضخيم الفواتير والتلاعب بالمشتريات العمومية، وهو كذلك التهرب الضريبي وتحويل الأموال إلى الخارج. والأخطر من ذلك أنه يتمثل في تكميم أفواه المبلّغين عن الفساد ومعاقبتهم بدل حمايتهم وتشجيعهم. وحين تُعاقَب الأصوات النزيهة، يتمدد الفساد ويترسخ في صمت.

إن الردع الحقيقي لن يتحقق إلا إذا سلك المسؤولون الذين جُرِّدوا بالأمس من مناصبهم نفس المنهج الذي اتُّبع في ملف العشرية: تحقيق قضائي صارم، محاكمات علنية، وحجز شامل على الأموال والممتلكات. أما إذا لم يحدث ذلك، فإن القضية قد يُنظر إليها كاستهداف شخصي لا علاقة له بمكافحة الفساد، أو كإجراء لا يطال إلا من ليست لهم حماية، فيتحول بدوره إلى هواء عابر، لأنه لم يطل جميع المفسدين في مختلف القطاعات. وحينها ستفقد هذه الإجراءات مصداقيتها، ويترسخ الانطباع بأن الفساد باقٍ ما بقيت الحصانات والانتقائية

لقد عشنا في عهد العشرية ما سُمِّي بمحاربة الفساد، فاعتُقِل رجال أعمال، وجُرِّد مسؤولون من مناصبهم، واستُرجِع الكثير من أموال الدولة، واستُخدم الإعلام حينها في الدعاية لهذه الإجراءات. غير أن الحصيلة أثبتت أن محاربة الفساد حين تُدار بانتقائية تصبح مجرد وسيلة لتصفية الحسابات، لا لمعالجة أصل الداء.

هذه التجربة القاسية جعلت من الصعب اليوم على الرأي العام أن يتقبّل أي إجراء جديد إلا إذا كان على مستوى أعلى من الشفافية والصرامة، يبدّد الشكوك، ويثبت أن الدولة هذه المرة جادة في خوض المعركة حتى النهاية، بلا استثناءات ولا حصانات.

الأيام القادمة وحدها ستُظهر خلفيات هذه القرارات وما إذا كانت خطوة جادة في الحرب على الفساد، أم مجرد تصفية حسابات عابرة.

بقلم المهندس الحاج سيدي ابراهيم سيدي يحي

 اقرأ المزيد على الرابط : https://www.elhodh.info/


شائع

اترك تعليقك