منذ عقود، تَرسّخت القبلية والجهوية والاعتبارات العرقية في بنية المجتمع الموريتاني. ورغم أن هذه المكونات كان يمكن أن تظل إطارًا اجتماعيًا للتضامن والتكافل، إلا أنها تحولت تدريجياً إلى أدوات للتأثير السياسي، ووسائل للتموقع الاجتماعي والاقتصادي. هذا الانزياح من البعد الاجتماعي الطبيعي إلى البعد السياسي – النفعي جعل منها قوة موازية للدولة، وأحياناً أقوى من المؤسسات الرسمية في تشكيل الولاءات وتحديد المسارات.
المثقفون ودورهم في تكريس الانقسام
المفارقة أن النخبة المثقفة، التي كان يُفترض أن تقود مشروعًا وطنياً جامعاً، انخرطت في لعبة العصبيات الضيقة. بدل مواجهة القبلية بالخطاب العقلاني، ساهمت في إعادة إنتاجها من خلال التماهي معها أو استغلالها للوصول إلى المناصب. وبذلك ضاعت فرصة بناء مشروع وطني حقيقي يعيد ترتيب الأولويات على أساس المواطنة والجدارة لا على أساس الانتماء القبلي أو الجهوي.
السلطة: سياسة الاحتواء بدل المواجهة
الأنظمة المتعاقبة تعاملت مع القبلية بوصفها واقعاً يصعب تجاوزه، فاحتوته واستثمرت فيه بدل السعي إلى تفكيكه. وقد تجلّى ذلك في:
- توزيع المناصب على أساس التوازن القبلي والعرقي لا على أساس الكفاءة.
- توظيف الوجهاء والقيادات التقليدية كوسائط بين الدولة والمجتمع.
- إضعاف المؤسسات الحديثة لصالح البنى التقليدية التي يسهل التحكم فيها.
السياسيون والانتهازية الانتخابية
السياسيون وجدوا في القبلية والعرقية وسيلة مضمونة لكسب الأصوات. فالحملات الانتخابية غالباً ما تقوم على تعبئة العصبيات بدلاً من طرح البرامج والمشاريع. وهكذا تحولت السياسة من منافسة حول مشاريع وطنية إلى صراع بين كتل قبلية وعرقية، كل واحدة تبحث عن حصتها من السلطة والموارد.
المفسدون والحماية بالانتماء
أخطر نتائج تغلغل القبلية والعرقية أنها وفّرت مظلة حماية للفاسدين. من يثبت تورطه في نهب المال العام، بدلاً من أن يُحاسب أمام القانون، غالباً ما يُكتفى بمطالبته برد جزء مما استحوذ عليه. ويعود ذلك إلى الحماية التي توفرها له قبيلته أو مجموعته العرقية، مما يضرب في الصميم مبدأ العدالة ويغذي ثقافة الإفلات من العقاب.
المؤسسات بين الفكرة والممارسة
الكثير من المراقبين يرون أن البرلمان، بدل أن يكون مؤسسة تشريعية ورقابية تعبّر عن الإرادة الشعبية وتنهض بواجبها في سنّ القوانين ومحاسبة السلطة التنفيذية، أصبح يُنظر إليه كساحة لتوازنات قبلية وعرقية. كما أصبح يُنظر إلى الحكومات، بدل أن تُشكَّل على أساس الكفاءة والخبرة والنزاهة، على أنها محاصصة بين الانتماءات والأعراق. وحتى المناصب السامية، التي يُفترض أن تُسنَد إلى أصحاب الكفاءات الوطنية المؤهلين، يُنظر إليها اليوم على أنها تُوزَّع وفق الولاءات الضيقة والانتماءات التقليدية، بما يُضعف أسس الدولة الحديثة ويُفرغ مؤسساتها من مضمونها الحقيقي.
الواقع ومعضلة الإصلاح
الواقع أن غلاء المعيشة وما يرافقه من ضغط يومي على لقمة العيش، قد دفع كل فرد إلى الانشغال بذاته والبحث عن حلول آنية تُجنّبه الانهيار، ولو بثمن القبول بواقع غير عادل. ومع تراكم الأزمات، تَشَكَّل وعي سلبي جماعي يُقنِع الناس بأن لا حيلة لهم سوى الارتهان لوعود تتكرر ولا تتحقق، فيتحول الانتظار إلى قدر، والرضوخ إلى ثقافة عامة. وهكذا تستمر الحلقة المفرغة حيث يعيد النظام إنتاج نفسه عبر وهم الإصلاحات، بينما يبقى المواطن أسير الحاجة والخوف من المجهول. إن آفاق الإصلاح الحقيقية لا يمكن أن تُفتح إلا بتحرير الفرد من وهم العجز، وإعادة بناء قناعة راسخة بأن التغيير ممكن، ليس فقط على مستوى النخب والسلطة، بل ابتداءً من وعي المجتمع لنفسه وقدرته على كسر قيود الاستسلام وإعادة صياغة العقد الوطني على أسس جديدة.
الوضع الراهن: بلوغ الذروة
اليوم، تبدو مظاهر القبلية والعرقية في موريتانيا أكثر رسوخاً من أي وقت مضى. فهي حاضرة في التعيينات، في الانتخابات، في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وحتى في الإعلام والفضاء الرقمي. لكن كما يقول المثل: “كلما بلغ الشيء ذروته بدأ في الانحدار”. هذا يعني أن استمرار الوضع بهذه الوتيرة قد يؤدي إلى صدامات أو أزمات تدفع بالضرورة نحو التغيير، سواء بوعي وطني جامع أو بضغط الواقع.
ورغم أن الرئيس محمد الشيخ الغزواني حاول في أكثر من خطاب التعبير عن رفضه لهذا الواقع، فإن الممارسة اليومية لم تُظهر حتى الآن تحوّلاً جوهرياً يُترجم تلك الدعوات إلى واقع ملموس. ومن هنا يتعاظم السؤال: هل ستبقى السلطة حبيسة التوازنات التقليدية التي تستنزف الدولة وتمنعها من التحديث، تاركة المجتمع ينزلق شيئاً فشيئاً نحو مأزق أكثر خطورة، أم أن الرئيس سيتدارك اللحظة بفتح أفق إصلاحي واسع يُشرك فيه جميع القوى الوطنية، بمن فيهم المعارضون، لبناء مسار جامع يقي البلاد الانزلاق ويحفظ استقرارها؟
بقلم المهندس الحاج سيدي ابراهيم سيدي يحي
اقرأ المزيد على الرابط : https://www.elhodh.info/