تحولت مخالفات المرور في نواكشوط إلى كابوس يومي يؤرق سائقي السيارات، خاصة أولئك الذين يكدحون من أجل لقمة العيش. فلا تكاد تمر زاوية أو شارع رئيسي في العاصمة، إلا وتجد دورية شرطة تحمل جهازًا لفحص لوحات السيارات وتحديد عدد المخالفات المسجلة. والمفاجئ في الأمر أن معظم السائقين، مهما أخذوا من الحيطة والحذر، يُفاجأون بقائمة طويلة من المخالفات التي لم يكونوا على دراية بها.
وقد زاد هذا الوضع من العبء الملقى على جهاز الشرطة نفسه، ذلك الجهاز المكلّف أساسًا بالمحافظة على الأمن والنظام العام، وحماية المواطنين وممتلكاتهم، في وقت تتزايد فيه معدلات الجريمة والتحديات الأمنية. ورغم هذه الظروف، فقد أظهرت الشرطة كفاءة عالية في أداء مهامها، ونالت احترام المواطن وثقته. إلا أن القرار المتعلق بتطبيق نظام مخالفات المرور بهذا الشكل، قد يُشتت جهودها، ويضعف من فعاليتها في المهام الأمنية الجوهرية، بل ويضعها – عن غير قصد – في مواجهة مباشرة مع المواطن، وكأنها أداة لظلمه واستنزافه. وهذا ما أوجد حالة من التحدي لدى بعض المواطنين تجاه أفراد الأمن، مما قد يدفع الشرطي إلى فقدان أهم ما يميزه: ضبط النفس، والتعامل الراقي، والاحتراف في تطبيق القانون.
لا أحد ينكر أهمية السلامة الطرقية، ولا يُجادل في أن ضبط المرور يمثل أحد أهم أدوات تنظيم الحياة الحضرية. بل إن مخالفة قوانين المرور – عند تطبيقها بعدالة وشفافية – تظل من أنجع الوسائل لتحقيق الأمن على الطرق. لكن في الحالة الموريتانية، هناك عدد من الاعتبارات الجوهرية التي يجب أخذها في الحسبان قبل تنفيذ هذه السياسة بالشكل الحالي، حتى لا تتحول إلى وسيلة ضغط على الفقراء بدل أن تكون وسيلة لحمايتهم.
أولاً، المسؤولية الأولى تقع على عاتق الجهة المكلفة بمنح رخص السياقة. هذه الهيئة، وعلى مدى عقود، منحت التراخيص لأشخاص لا يمتلكون الكفاءة اللازمة، وقد أدى ذلك إلى فوضى عارمة في حركة المرور، تسببت في أضرار بشرية ومادية جسيمة للمواطنين. ومن هذا المنطلق، كان من الضروري أن تتخذ الحكومة خطوة إصلاحية شجاعة، تمنح من خلالها مهلة لا تقل عن ثلاث سنوات لإعادة تقييم جميع السائقين، ولو تطلّب الأمر إعادة امتحانات رخص السياقة بشكل تدريجي ومنهجي.
ثانيًا، على الحكومة أن تستكمل الجهود الجادة التي تبذلها حاليًا في مجال مكافحة الفساد، حتى لا تصبح الأموال الباهظة المحصّلة من مخالفات المرور موردًا جديدًا يذهب إلى جيوب المفسدين. فدون رقابة فعالة وشفافية صارمة، قد تتحول هذه العائدات من أداة تنظيمية إلى وسيلة لتمويل شبكات الفساد، ما يقوض ثقة المواطنين في جدوى الإصلاح ويُفرغ السياسات من مضمونها. وعليه، يجب أن يكون كل تحصيل مالي مرفوقًا بضمانات واضحة تضمن توجيه العائدات نحو تحسين الخدمات العمومية، خصوصًا في قطاع النقل والسلامة الطرقية.
ومن جهة أخرى، فإن تطبيق أي قرار ذي أثر مباشر على حياة المواطنين، خاصة القرارات ذات الطابع المالي أو التنظيمي، يتطلب تريثًا وحسن إعداد. فالقوانين – مهما كانت وجيهة في مضمونها – قد تفشل إن لم تُنفذ في سياق ملائم يراعي الواقع الاجتماعي والاقتصادي للفئات المستهدفة. ولهذا، ينبغي أن تسبق عملية التطبيق مراحل تشاور، وتقييم، وتوعية، فضلاً عن فترات انتقالية تمنح المواطنين الوقت الكافي للتكيف. فالغاية من القانون ليست العقاب بحد ذاته، بل الإصلاح وتحقيق المصلحة العامة بعدل وإنصاف.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل الجهود الاجتماعية الكبيرة التي تبذلها الدولة بقيادة رئيس الجمهورية محمد الشيخ الغزواني، من خلال البرامج الوطنية التي تنفذها “تآزر” و”مفوضية الأمن الغذائي”. فمنذ بداية المأمورية الثانية، تمكنت هاتان المؤسستان من إدخال مقاربة جديدة وفعالة، سمحت بتوسيع نطاق عملهما ليشمل مناطق كانت لفترة طويلة خارج دائرة الاستفادة. وقد أثبتتا كفاءة عالية في وقت وجيز، ونجحتا في إيصال الدعم للفئات الأكثر احتياجًا في كل أنحاء البلاد، ما عزز الثقة في السياسات الاجتماعية للدولة، وأعاد الأمل لشرائح كثيرة كانت تعيش على الهامش.
لكن المؤسف أن تطبيق نظام مخالفات المرور بالشكل الحالي، ومن دون تدرج أو مراعاة للواقع الاقتصادي، قد يُفرغ هذه السياسة الاجتماعية من مضمونها، بل يُحولها – في نظر البعض – إلى سياسة تعطي باليد اليمنى ما تأخذه مضاعفًا من اليد اليسرى. وكأن هناك يدًا سفلى تسعى إلى محو هذا الطابع الاجتماعي لسياسة رئيس الجمهورية، وهو في مأموريته الأخيرة، بقرار قد يهدد بمحو ما تحقق من إنجازات لصالح الفئات الهشة، ويضرب في الصميم المبادئ التي قام عليها مشروعه المجتمعي.
إنني نناشد الحكومة، وعلى رأسها معالي الوزير الأول المخطار ولد اجاي، أن تُعيد النظر في آلية تنفيذ نظام مخالفات المرور، وأن تتدارك الأمر قبل أن يتحول إلى كارثة اجتماعية تزيد من التوتر، وتُفاقم شعور الظلم لدى المواطنين. فالسياسات العادلة لا تُقاس فقط بحسن نواياها، بل بآثارها الواقعية على حياة الناس، وخاصة الفئات الأكثر هشاشة.
بقلم المهندس الحاج سيدي ابراهيم سيدي يحي
نواكشوط 19/7/2025
📌 اقرأ المزيد على الرابط :https://www.elhodh.info/