في تصريحٍ لافت، قال الناطق باسم الحكومة إنّ المشمولين في تقرير محكمة الحسابات لم يُتَّهموا باختلاس المال العام، بل اقتصرت مخالفاتهم على أخطاءٍ إدارية وتسييرية، مؤكدًا أنّ ما يُتداول عن مبالغ تقارب 400 مليار أوقية “لا أصل له”.
لا شكّ أنّ هذه التصريحات تأتي في سياق تهدئة الرأي العام، وهي في ظاهرها خطوة مسؤولة لتجنّب التسرّع في إصدار الأحكام، وترك المجال للقضاء ليقول كلمته. لكنّها تطرح في المقابل سؤالًا جوهريًا:
إذا كانت التهم مجرد “أخطاء إدارية”، فهل يعني ذلك أنّنا لم نصل بعد إلى جوهر الفساد المالي الذي أرهق البلاد؟
لقد فهمنا من تصريح الناطق باسم الحكومة أنّ المشمولين في التقرير ليسوا هم سُرّاق المال العام، وهو ما يجعل الكرة الآن في ملعب الرئيس الذي تعهّد بمحاربة الفساد بلا هوادة.
فالمطلوب اليوم ليس الاكتفاء بالإقالات، بل تشكيل آلية قوية وشفافة لاستخراج المفسدين الحقيقيين من بين الصفوف، ومحاسبتهم علنًا، لأنّ الأمر لا يحتمل المجاملة.
فهؤلاء الذين نهبوا المال العام ليسوا هواة في الفساد، بل محترفون في إخفاء آثارهم، يتقنون التلاعب بالوثائق والصفقات والموازنات، وهم محميّون بشبكات نفوذ وسياسيين يمنحونهم الغطاء، ومسؤولين يغضّون الطرف عن تجاوزاتهم.
ولذلك يبقون بمنأى عن المساءلة، يحيطون أنفسهم بحصانة غير معلنة تجعلهم فوق القانون.
وجوه الفساد وأثره على المواطن
أساليب الفساد تتنوّع بين صفقاتٍ مبالغٍ فيها، ومشاريعٍ وهمية، ومؤسساتٍ تُدار على الورق.
تُمنح الصفقات لمن لا يستحقها، وتُنفّذ بأموالٍ طائلة مشاريع لا تصمد عامًا واحدًا:
مدارس تتداعى جدرانها بعد أشهر، وطرقٌ تتشقّق وهي قيد البناء، ومستشفيات مجهّزة بأجهزةٍ غير صالحة كلفت خزائن الدولة ملايين الأوقية.
وفي النهاية، يبقى المواطن هو من يدفع الثمن — من جيبه، وصحّته، ومستقبل أبنائه.
حينذاك يكون للتعهد معنى
حين يُلقى القبض على المفسدين الحقيقيين وتُستعاد الأموال المنهوبة، يكون لتعهد الرئيس معنىً ووزنًا، ويشعر المواطن أنّ العدالة لم تعد شعارًا بل واقعًا.
عندها فقط، ستعود هيبة الدولة، وسيُستعاد المال العام إلى مكانه الطبيعي في بناء المدارس والمستشفيات والطرق بدل أن يُنهب في الصفقات والعمولات.
وحينها سينتصر القانون على المحسوبية، ويشعر الموظف الشريف بالأمان، والمستثمر النزيه بالثقة، والمواطن البسيط بأنّ جهده لا يضيع في جيوب الفاسدين.
إنّ القضاء على الفساد ليس مجرد مطلب سياسي أو شعبي، بل هو بوابة التنمية الحقيقية، لأنّ كل أوقية تًستردّ هي مدرسة تُبنى، ومستشفى يُجهَّز، وطريقٌ يُعبَّد، وفرصة عمل تُخلق.
فبقدر ما يُستأصل الفساد، تُزرع الثقة، وتُستعاد العدالة، ويقوى الوطن من الداخل.
.هؤلاء المفسدين هم من نريد أن نراهم خلف القضبان؛ لأنّهم أهدروا أموال الأمة وأفقروا شعبها.
إنّ السكوت عنهم أو التهاون في ملاحقتهم يعني استمرار الحلقة المفرغة من الفساد، وبقاء الوطن رهينةً لأقليةٍ تحترف النهب تحت غطاء الشرعية والمناصب، وبحماية النفوذ والعلاقات، وبمساندة الصمت الإداري والتواطؤ البيروقراطي.
أولئك الذين جعلوا من المؤسسات دروعًا تقيهم العدالة، ومن القوانين مظلاتٍ تُخفي جرائمهم، ومن الولاءات سلّمًا يصعدون به فوق المحاسبة.
بقلم: المهندس الحاج سيدي إبراهيم
المدير الناشر لوكالة الحوض للأنباء
اقرأ المزيد على الرابط : https://www.elhodh.info/