الفساد لا يحتاج إلى سلاح… ما دامت الحصانة تحرسه - وكالة الحوض للأنباء

الفساد لا يحتاج إلى سلاح… ما دامت الحصانة تحرسه

ما زال الرأي العام الموريتاني يعيش على وقع ما كشفه تقرير محكمة الحسابات لسنتي 2022–2023 من اختلالاتٍ صادمة في تسيير المال العام، لكن الأخطر من ذلك ليس ما ذُكر، بل ما لم يُذكر. ...
Image

ما زال الرأي العام الموريتاني يعيش على وقع ما كشفه تقرير محكمة الحسابات لسنتي 2022–2023 من اختلالاتٍ صادمة في تسيير المال العام، لكن الأخطر من ذلك ليس ما ذُكر، بل ما لم يُذكر.

فهناك مؤسسات عمومية عاش فيها الفساد في أبشع صوره، ومع ذلك لم يرد اسمها ولا ذكر إدارتها، وكأنها فوق المساءلة وفوق القانون.

الفساد لا يحتاج إلى سلاح… ما دامت الحصانة تحرسه.

هذه الحقيقة المريرة تلخّص واقعاً مؤلماً: حين تتحول الحصانة من وسيلةٍ لحماية المسؤولين في أداء مهامهم إلى درعٍ تُخفي وراءها التجاوزات والجرائم المالية، يصبح الفساد جزءاً من النظام، لا انحرافاً عنه.

هذا الصمت لا يعني البراءة، فالحصانة لا تعني الطهارة، والذاكرة الشعبية لا تُشترى.

في إحدى المؤسسات العمومية، تولّى إدارتها أحد المديرين السابقين، فتحولت شيئًا فشيئًا من مؤسسة وطنية ذات مهمة واضحة إلى مساحة مغلقة تُدار بالعلاقات والولاءات، لا بالقانون.

في تلك المرحلة، لم يعد باب الاكتتاب الوطني بابًا للعدالة وتكافؤ الفرص، بل أصبح أداة نفوذ.

استُخدم التوظيف كوسيلة لتمكين الأقارب والمعارف والمقربين، بينما حُرم المواطنون الأكفاء الذين لا يملكون وساطة أو علاقة نافذة من أبسط حقوقهم في الالتحاق بالوظيفة العمومية.

لقد تحوّل الحق في العمل إلى امتياز عائلي يُوزَّع داخل دائرة ضيقة، وكأنّ المؤسسة ليست مؤسسة دولة، بل ملكية خاصة تورَّث وتُدار بالمزاج الشخصي.

إنّ هذه الممارسات لم تفسد فقط مؤسسة واحدة، بل وجّهت طعنة عميقة في صميم العدالة الاجتماعية.

حين يرى المواطن أن الاكتتاب لا يعتمد على الكفاءة، يفقد الثقة في الدولة.

وحين يدرك الشاب المتعلم أنّ مقعده سيُمنح لغيره بالقرابة، يفقد الحافز للعلم والجهد.

وهكذا يبدأ الانهيار: حين تَغيب المساواة، تضعف قيم الانتماء، ويترسخ الإحباط واللامبالاة.

ولم يكن هذا المدير يعمل بمفرده، بل إلى جانبه مستشار فاسد السمعة، متعجرف الطبع، محترف في الاحتيال والتزوير، عرف كيف يزيّن الجرائم بمسوغاتٍ شكليةٍ زائفة، ويُلبس الانحراف ثوبًا قانونيًا هشًا.

لقد كان الاثنان وجهين لعملة واحدة: الخبث الإداري والنفوذ المالي.

وبفضل الحماية التي وفرها له أحد النافذين في السلطة، ظلّ هذا المدير بمنأى عن المساءلة، يعيش في أمانٍ مطلق وكأنه خارج نطاق القانون.

ومع مرور الوقت، انهارت المؤسسة التي كان يديرها حتى غدت اليوم شبه مدمّرة ، لا تملك من أسباب البقاء إلا أن تغيّر نشاطها الأصلي وتتخلى عن الهدف الذي أُنشئت من أجله.

وذلك وحده أكبر شاهدٍ على حجم الخراب والفساد الذي خلّفه سوء التسيير.

استثمار الدولة في الإنسان… والخيبة المؤلمة:

هكذا تدفع موريتانيا أثمانًا باهظة لتكوين أبنائها: تُنفق أموالًا طائلة على تعليمهم، وتوفّر لهم منحًا للدراسة في الخارج، وتفتح أمامهم أبواب أرقى الجامعات العالمية، أملاً في أن يعودوا بخبراتهم ليخدموا الوطن.

لكن المأساة أن بعضهم، ما إن يعودوا، حتى يضربوا عرض الحائط بكل ما تعلّموه من أخلاقٍ وقيمٍ في مدارسهم وجامعاتهم، فيتحوّلون من بناةٍ منتظرين إلى سارقي أحلام الشعب الضعيف.

يعودون يحملون شهاداتٍ مرموقة، لكنهم يفقدون ضمائرهم في أول امتحانٍ للسلطة والمال.

فتتحول خبراتهم إلى أدواتٍ لتزيين الفساد بدل محاربته، ويغدون مثالًا حيًّا على كيف يمكن للعلم بلا ضمير أن يصنع أخطر أنواع الفساد.

كم هي مأساة مؤلمة أن تُرسل الدولة أبناءها ليكونوا قادة بناء، فيعود بعضهم ليكونوا قادة هدم.

إنهم جيلٌ نُفِخ فيه الأمل فخان الرسالة، وتعلّم الأخلاق فنسيها عند أول منصب.

إنّ الفساد في هذه الدائرة ليس صدفة، بل منظومة متكاملة يحمي بعضها بعضًا.

لكن مهما طال الزمن، فإنّ الحق لا يموت، والذاكرة لا تُمحى، والعدالة ستجد طريقها ولو بعد حين.

تنويه :

هذا المقال يقدم قراءةً تحليليةً عامة لظواهر الزبونية واستغلال النفوذ وسوء التسيير

اقرأ المزيد على الرابط :  https://www.elhodh.info/                


شائع

اترك تعليقك