منذ عقود، تحتكر شركتان عموميتان تسيير خدمات من بين الأهم في حياة المواطنين في موريتانيا: شركة الكهرباء الوطنية، وشركة توزيع المياه. ورغم أن مهمتهما الأساسية – وهي ضمان وصول الكهرباء والماء الصالح للشرب إلى جميع السكان – تُعد من أولويات الدولة، فإن الواقع يُظهر فشلًا ذريعًا في تحقيق هذه الأهداف.
ورغم تدفق الموارد المالية الهائلة، وتعدد المشاريع والدعم الخارجي، تحوّلتا إلى رمزين للفشل البنيوي، وسوء التسيير، وانعدام احترام المواطن.
مهام نظريًا نبيلة… وعمليًا مهملة
- شركة الكهرباء من المفترض أن تضمن إنتاج ونقل وتوزيع الطاقة الكهربائية بشكل منتظم وآمن وعادل عبر التراب الوطني.
- أما شركة المياه، فمهمتها الأساسية هي توفير مياه الشرب، وضمان توزيعها، وصيانة الشبكات والبنية التحتية المرتبطة بها.
لكن ما هو منصوص عليه في دفاتر المهام لا يجد أي صدى في الواقع. إذ تحولت هذه المؤسسات إلى مصدر للمعاناة، وعقبة أمام تحسين ظروف الحياة اليومية.
ميزانيات ضخمة مقابل نتائج كارثية
تلقت هاتان الشركتان عبر السنوات مليارات الأوقية من ميزانية الدولة، إلى جانب دعم مالي دولي كبير.
- شركة الكهرباء استفادت من مشاريع عدة: محطات حرارية، طاقة شمسية، ربط شبكي إقليمي… دون تحسين فعلي في الخدمة.
- شركة المياه أشرفت على مشاريع كبرى: آفطوط الساحلي، شبكة نواكشوط، آبار في الداخل… ورغم ذلك، ما زال سكان العاصمة ومدن الداخل يعانون من انقطاعات متكررة للماء، ومناطق عطشى بالكامل.
جذور الفشل عميقة ومعقدة
أسباب الفشل تعود إلى سلسلة من الاختلالات المتشابكة:
- غياب الكفاءة الإدارية والتقنية؛
- غياب آليات واضحة للتتبع والمساءلة؛
- عدم التوقع وغياب التخطيط لمواجهة النمو السكاني والتوسع العمراني؛
- شبكات متهالكة وبنية تحتية غير مؤهلة؛
- معاملة غير لائقة للمواطن عند التوجه للمصالح الإدارية؛
- غياب تام لهيئات رقابية مستقلة وفعالة؛
- فشل في تحديث وتطوير أساليب العمل بما يواكب العصر.
خدمة عمومية منفصلة عن هموم المواطنين
الأمر لا يتوقف على الجانب التقني فقط، بل يتعداه إلى الإهانة الصريحة لكرامة المواطن.
فحين يتوجه أحد المواطنين إلى وكالة لتسوية خطأ في الفاتورة أو المطالبة بتعويض عن ضرر سببه انقطاع مفاجئ، يُقابل بالإهمال وربما الاحتقار، ولا تُفتح أمامه أي آلية للتظلم أو الاسترجاع.
النتيجة: الشعور العام بالظلم وفقدان الثقة في المرفق العمومي.
الإصلاح لم يعد ممكنًا… لا بد من الحل
بعد سنوات من المحاولات الفاشلة والتقارير غير المجدية، بات من الواضح أن هذه المؤسسات وصلت إلى طريق مسدود.
لقد تحولت إلى هياكل متصلبة، عاجزة عن التطوير أو التجديد أو حتى الاعتراف بفشلها.
الحل الوحيد هو الحل الكامل لهاتين الشركتين، والبدء من جديد على أسس حديثة ومسؤولة.
ما البدائل الممكنة دون اللجوء إلى الخصخصة؟
الخصخصة ليست حلاً. بل ستزيد من معاناة الفقراء وتخلق طبقية في الوصول إلى الخدمات الأساسية. لكن هناك بدائل واقعية وذات طابع عمومي:
1. وكالات جهوية مستقلة
تكون خاضعة لمجالس إدارات محلية، تضم ممثلين عن الدولة والمجتمع المدني والبلديات، وتُقيّم حسب الأداء.
2. تعاونيات مجتمعية بإشراف البلديات
تقوم على إدارة خدمات الماء والكهرباء بشكل جماعي، بدعم فني وتمويلي من الدولة.
3. شراكات تقنية مع دول لديها خبرة ناجحة
مثلاً التعاون مع مؤسسات حكومية من الدول الصديقة، دون نقل الملكية أو احتكار أجنبي.
4. هيئة رقابة وطنية مستقلة
تراقب الجودة، وتنصف المتضررين، وتُحاسب المُقصرين.
5. رقمنة شاملة للخدمات
بوابات إلكترونية للإبلاغ عن الانقطاعات، الفوترة، الشكاوى، وتتبع المعالجة زمنياً.
نماذج دولية للوكالات الجهوية المستقلة في تسيير الماء والكهرباء
في ظل فشل التسيير المركزي المزمن لخدمات الماء والكهرباء في بعض الدول، اتجهت عدة بلدان إلى اعتماد نموذج الوكالات الجهوية المستقلة الخاضعة لمجالس إدارات محلية، تضم ممثلين عن الدولة والبلديات والمجتمع المدني، وتُقيَّم حسب الأداء.
يُراقب أداؤها سنويًا من خلال تقارير مالية وتقنية، وتُحاسب إداريًا وفقًا لمؤشرات كمية، مثل عدد الانقطاعات، زمن الإصلاح، وجودة التغطية.
- في المغرب، تتولى وكالات توزيع الماء والكهرباء في مدن مثل الدار البيضاء ومراكش هذه المهام بشكل مستقل، وهي تخضع لتدقيق دوري من قبل المجالس الجهوية المنتخبة.
- في تونس، تم منح بعض البلديات الصلاحية الكاملة في تسيير شبكات المياه الريفية، مع إشراف مجالس محلية تشرف على التمويل والتوزيع والصيانة.
- في جنوب أفريقيا، تُدار شبكات الكهرباء في عدة مدن كبرى من طرف هيئات محلية مستقلة تخضع للمساءلة من طرف السلطات الجهوية والمواطنين.
- في الهند، تقوم مجالس المقاطعات بإدارة توزيع المياه والكهرباء في بعض الولايات بشكل مباشر، وتُحاسب على الأداء من خلال تقارير مفتوحة للجمهور.
- في البرازيل، تم تأسيس وكالات جهوية للمياه تخضع لرقابة حكومية محلية ومجالس شعبية منتخبة، ما أدى إلى تحسين الخدمة وتقليل الانقطاعات.
تُظهر هذه التجارب أن لامركزية التسيير تمنح مرونة أكبر، وتزيد من فاعلية الرقابة، وتخلق علاقة مباشرة بين الجهة المزوِّدة للخدمة والمواطن المستفيد، وهو ما يصعب تحقيقه في النمط المركزي.
لا إصلاح ممكن دون قطيعة جذرية
الإبقاء على الهيكل القائم لما يُفترض أن يكون مؤسستين استراتيجيتين لتوفير خدمتي الماء والكهرباء، لم يعد مجرد تساهل إداري، بل هو تكريس ممنهج للفشل المؤسسي، وانتهاك صارخ لحق المواطن في الحصول على خدمات أساسية مستقرة، كريمة ومنصفة.
إن العجز المزمن لهاتين المؤسستين، اللتين تتعاقب عليهما الإدارات دون أثر ملموس على مستوى الأداء، يُثقل كاهل القطاعين المعنيين، ويفرض على السلطات الوصية الدخول في دوامة متكررة من التعديلات والإقلات، سواء على مستوى المدراء العامين أو حتى الوزراء أنفسهم، دون أن يُطرح السؤال الجوهري: هل يمكن إصلاح ما بُني على أساس هش؟
أبعد من ذلك، فإن هذا النمط من التسيير، الذي يتميز بـغياب النجاعة، وتآكل الشفافية، وضعف المحاسبة المؤسسية، يُلحق ضررًا بالغًا بصورة الدولة، ويقوّض ثقة المواطن في صدقية وفعالية الجهاز الحكومي، بل يفتح الباب واسعًا أمام تشكيك عميق في التزام الدولة بحدها الأدنى من واجباتها الاجتماعية.
من هذا المنطلق، فإن المراجعة الهيكلية العميقة لهذه المنظومة الخدمية لم تعد خيارًا إصلاحيًا من ضمن آخر، بل شرطًا وجوديًا لاستعادة حد أدنى من التماسك الاجتماعي والثقة العامة.
لقد آن الأوان لاتخاذ قرار شجاع:
حل هذه الكيانات الفاشلة، ووضع أسس جديدة لبنية مؤسسية حديثة، خاضعة لمعايير الحوكمة، والمساءلة، والتقييم المنتظم المبني على الأداء الكمي والفني. بديل لا يُختبَر بالشعارات، بل يقاس بعدد الانقطاعات، وزمن التدخل، وجودة التغطية، والتفاعل الإداري مع شكاوى المواطنين.
فبدون هذه القطيعة، لن يكون هناك إصلاح حقيقي، ولن تكون للدولة سلطة معنوية تُجبر المواطنين على الثقة بها.
بقلم المهندس الحاج سيدي ابراهيم سيدي يحي
اقرأ المزيد على الرابط : https://www.elhodh.info/