بقلم: المهندس الحاج سيدي إبراهيم سيدي يحي -//-
من حيث المبدأ، لا خلاف على أن احترام قوانين المرور ضرورة وطنية وأخلاقية، تُسهم في حفظ الأرواح والممتلكات، وتقلل من الحوادث التي أصبحت مأساة يومية في طرقاتنا. ومن هذا المنطلق، قد يبدو فرض رسوم على المخالفات المرورية خطوة مبررة لردع المستهترين وتحقيق الانضباط. غير أن أي قرار إصلاحي، مهما كانت وجاهته، لا ينجح إن لم يُبنَ على تشخيص دقيق للواقع، وإن لم يُراعَ عدالة التطبيق.
لقد قررت حكومة معالى الوزير الأول المخطار ولد اجاي فرض رسوم متفاوتة على المخالفات المرورية، حسب درجة الخطورة. لكن، هل الواقع الحالي يسمح بذلك؟ وهل منظومتنا المرورية مؤهلة لتطبيق هذه الخطوة دون أن تُخلّف أضرارًا جسيمة على شرائح هشة من المجتمع؟ الواقع يُجيبنا بوضوح: لا.
إننا في بلدٍ تختلف فيه طبيعة الحصول على رخصة السياقة عن الدول التي نستلهم منها قوانيننا. ففي كثير من الحالات، كانت هذه الرخص تُمنح في الماضي دون ضمان حدٍّ أدنى من الكفاءة أو المعرفة بقوانين السير. والمؤسف أن الجهات التي كانت مسؤولة آنذاك عن إصدار الرخص – والتي يُفترض بها أن تؤمّن سلامة الطرق وتضمن التأهيل – لم تقم بدورها كما ينبغي، بل ساهمت، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تكوين جيل من السائقين غير المؤهلين. وعليها اليوم، وقد تغيّر السياق وازدادت التحديات، أن تتحمل هذه المسؤولية بشجاعة، وأن تساهم في تصحيح آثار تلك المرحلة، لا أن تكتفي بإلقاء العبء كاملًا على السائقين البسطاء ومعاقبتهم فقط.
.
أما في الجانب الاجتماعي، فإن تطبيق هذه الرسوم الصارمة يُثقل كاهل فئة تعاني أصلاً من الهشاشة الاقتصادية. فالسائق المهني، الذي يستيقظ قبل الفجر ويواصل عمله حتى ساعات الليل المتأخرة، يواجه اليوم مخالفات لا يعلم كيف وقعت، ولا يملك القدرة على سدادها. لقد باتت مراكز الشرطة تشهد تكدسًا لعشرات السائقين الذين يواجهون تراكمات من الغرامات، في مشهد يعكس أزمة عميقة، لا مجرد تطبيق قانون.
وفي ظل هذه الوضعية، يواجه مالك سيارة الأجرة – الذي استثمر مدخراته فيها ويعتبرها مشروعًا لتحسين وضعه الاقتصادي – معضلة حقيقية؛ إذ يجد نفسه عاجزًا أمام تراكم مخالفات مرورية ارتكبها السائق ولا يملك القدرة على تسديدها. وقد دفع هذا الواقع العديد من الملاك إلى التخلي عن سياراتهم أو بيعها بأثمان زهيدة، يأسًا من إمكانية استمرار المشروع. يقول أحدهم: “لا يوجد أي ضمان، فإذا قمت باستبدال السائق، فقد أقع في المشكلة نفسها مرة أخرى، وربما بمخالفات أكبر”. وهكذا، يتكرر السيناريو نفسه، وتتلاشى آمال صغار المستثمرين في مشروع بسيط كان من المفترض أن يضمن لهم دخلًا كريمًا.
هذا الواقع المؤلم يتناقض بشكل صارخ مع ما تم الإعلان عنه في مجلس الوزراء مؤخرًا من تطبيق مدونة الاستثمارات الجديدة، التي تهدف إلى تحسين مناخ الأعمال وتسهيل ولوج المواطنين إلى فرص اقتصادية مستدامة. والمفارقة أن النظام نفسه – الذي لم يتحمل مسؤوليته في تنظيم القطاع وضمان عدالة الإجراءات – هو من يطالب اليوم الأفراد بالانخراط في مناخ استثماري يُفترض فيه الأمان والثقة.
طالبت منذ أشهر، عند إقرار هذا النظام، بحل عملي ومنطقي: فتح مراكز لتعليم السياقة، وإعادة امتحان الرخصة تدريجيًا خلال ثلاث سنوات، حتى نعيد بناء منظومة نقل آمنة وعادلة، دون أن نمسّ أرزاق الناس أو نرمي بهم في أزمات هم في غنى عنها. لم يكن هذا النداء رفضًا للانضباط، بل دعوة إلى إصلاح واقعي ومتزن.
دروس وتجارب
إن التجارب الدولية والإقليمية أظهرت أن الإصلاح الحقيقي في مجال المرور لا يبدأ بالعقوبات، بل بالتأهيل والتدرج والعدالة الاجتماعية. وفيما يلي بعض الأمثلة الداعمة:
تجربة المغرب في إصلاح قطاع السياقة (2015-2018):
في تجربة رائدة، قررت الحكومة المغربية تشديد العقوبات على مخالفات السير، لكنها اعتمدت مقاربة منهجية تبدأ أولًا بإصلاح جذري لمنظومة التعليم والتكوين في مجال السياقة. فقبل فرض أي قيود جديدة، باشرت السلطات بوضع معايير صارمة على مدارس تعليم السياقة، واعتمدت نظام امتحانات إلكترونية موحدة لضمان النزاهة والشفافية في منح رخص القيادة. وإدراكًا منها لأهمية تأهيل العنصر البشري، أطلقت برامج موجهة لإعادة تأهيل السائقين المهنيين، بما يضمن تحسين الكفاءة والسلامة الطرقية، ويُمهّد لتطبيق العقوبات في بيئة عادلة ومتوازنة.”
في فرنسا:
يُعدّ تغيير سلوك السائقين عملية تدريجية ومدروسة، حيث تُسبق أي عقوبات مرورية جديدة بحملات توعوية وطنية تمتد على عدة أشهر، تهدف إلى إطلاع المواطنين على التعديلات وتفسير أسبابها. وعند تطبيق الإجراءات، تُعتمد منهجية متدرجة تبدأ غالبًا بتحذيرات رسمية، قبل المرور إلى العقوبات المالية. هذا النهج التربوي يضع التوعية في قلب السياسة العمومية للسلامة الطرقية، ويُجنّب السائقين عنصر المفاجأة أو الصدمة، ما يُعزز الالتزام الطوعي بالقانون بدل فرضه بالقوة.
في نيجيريا:
فقد شكّلت تجربة فرض غرامات صارمة على سائقي الدراجات النارية نموذجًا لما قد يحدث عند غياب التكوين. فعندما طبّقت السلطات هذه الغرامات دون توفير التأهيل الكافي، اندلعت احتجاجات واسعة من قبل السائقين، اعتبروا فيها الإجراءات تعسفية وغير عادلة. وأمام تصاعد الغضب الشعبي، اضطرت الحكومة إلى التراجع وفتح مراكز تدريب مجانية، وهو ما ساعد على امتصاص التوتر وتصحيح الوضع بطريقة أكثر واقعية وعدلاً.
في دول أخرى:
في العديد من الدول، مثل ألمانيا والنمسا، يُعتمد مبدأ “العدالة الإصلاحية” كخيار استراتيجي في السياسات المرورية. وفق هذا النموذج، يُمنح السائق المخالف فرصة استبدال الغرامة المالية بالالتحاق بدورات تدريبية، تهدف إلى رفع وعيه وتطوير مهاراته، بدل الاقتصار على العقاب فقط. يُركز هذا المسار على تغيير السلوك من الداخل، وإدماج المواطن في منطق الإصلاح، ليصبح شريكًا في الحفاظ على النظام بدل أن يُنظر إليه كمخالف دائم.
الرسالة التي تُجمِع بين هذه التجارب المتقدمة واضحة: الإصلاح الحقيقي لا يُبنى على الغرامات وحدها، بل يبدأ بتأهيل المواطن، وتوفير الشروط التي تُمكّنه من احترام القانون، ليأتي بعد ذلك دور المحاسبة. فالعقوبة تكون آخر مرحلة في منظومة متكاملة تبدأ بالتوعية، مرورًا بالتكوين، وانتهاءً بالمساءلة العادلة.
دعوة إلى التراجع وتدارك الأضرار
إن العدالة تقتضي أن يُحاسَب من خالف وهو مدرك للقانون، لا أن يُعاقب من لم تُتح له فرصة الفهم أو التأهيل. ومن هذا المنبر، أوجّه نداءً صادقًا للسلطات المعنية: أوقفوا هذا القرار أو راجعوه بعمق قبل أن تتحول النوايا الطيبة إلى مأساة اجتماعية. فلنُصلح المنظومة من الداخل أولًا، ولنكن شركاء في بناء بيئة مرورية عادلة وآمنة، لا خصوماً لمواطنين ضعفاء لا يملكون من الأمر إلا قوت يومهم.
📌 اقرأ المزيد على الرابط :https://www.elhodh.info/